أسس المحبه في الله و ما يتعلق بها :
ننتقل بعد هذه المقدمات والقواعد إلى بيان ما يتعلق بالحب في الله أو المحبة في الله، فنقول: أولاً: ينبغي أن نعلم أن المحبة في الله تشمل أساسين كبيرين: أحدهما: محبته صلى الله عليه وسلم. والثاني: محبة المؤمنين جميعاً، ويتعلق ويرتبط بذلك محبة ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه القضية أيها الإخوة! لابد من بيانها وذلك من خلال ما يلي:
الأساس الأول: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولوازمها
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي من أعظم أنواع المحبة في الله، وقد فرض الله على العباد جميعاً محبته صلى الله عليه وسلم وطاعته، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، وله من الحقوق والواجبات ما هي معلومة لدينا جميعاً، ولأن محبته صلى الله عليه وسلم متميزة عن محبة بقية المؤمنين؛ ومن ثم وجب تقديم هذه المحبة على النفس وعلى الولد والوالد وعلى الناس أجمعين. ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها علامات ولها لوازم أشير هنا إشارات مجملة إلى بعضها فأقول: أولها: أعظم علاماتها ولوازمها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقديم طاعته على طاعة غيره. ثانيها: وجوب توقيره واحترامه صلى الله عليه وآله وسلم. ثالثها: محبته صلى الله عليه وسلم محبة تقتضي حبه، وحب سنته، وحب سيرته، وحب أن يكون المؤمن ممن يحشر معه يوم القيامة، وأن يكون ممن يشرب من حوضه، وأن يكون معه صلى الله عليه وسلم في الجنة. ولمحبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضيات ولوازم كثيرة أعرضت عنها؛ لأن حديثنا هو عن الحب في الله وهو أشمل من ذلك، وقد أُلفت في ذلك كتب تبين مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك أشير هنا إشارة إلى أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها آثار قلبية وعملية في حياة الإنسان، ونقص هذه المحبة تظهر آثاره وعلاماته من خلال أعمال قلب العبد، ومن خلال أعمال جوارحه في الحياة، وتأملوا جميعاً حياة الناس اليوم: هل محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي في قلوب الناس كما ينبغي وكما أوجب الله تبارك وتعالى وبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ أقول: إن المتأمل في حال كثير من الناس اليوم يجد نقصاً شديداً في هذه المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، فكم من الناس من يقدم طاعة غيره على طاعته؟! وكم من الناس من يهتم بغيره من الناس، وقد يكون هذا الذي يهتم به من الكفار أو المشركين أو أهل البدع أو أهل الفجور أو غيرهم، ومع ذلك يهتم بهم أكثر مما يهتم برسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته وآدابه ونحو ذلك؟! وكم من الناس من إذا عرض عليه الأمر أو الخبر أو النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمه إلى عقله كما يحاكم كلام البشر، ولا يسلم الأمر لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم! والله تبارك وتعالى يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ومن لم يستكمل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبغي فلابد أن يؤثر ذلك على محبته للمؤمنين جميعاً، وهذه أيها الإخوة! قاعدة مهمة تأملوها في حياتكم وفي حياة الناس جميعاً، كلما كملت المحبة لله وكملت المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم بلوازمها وعلاماتها؛ فلابد أن يظهر أثر ذلك على محبة المؤمنين في الله تبارك وتعالى، وكلما نقصت تلك نقصت محبة المؤمنين في الله منها بقدر ذلك النقص.
الأساس الثاني: محبة المؤمنين في الله وآثارها ومميزاتها
إن محبة المؤمنين في الله تعالى من أصول الإيمان؛ بل هي من أوثق عرى الإيمان، ومن ثم فإننا سنعرض لها من خلال ما يميزها وآثارها، فأعظم ما يميز هذا الحب في الله وأعظم آثاره ما يلي: أولاً: أن الحب في الله باق إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، أيها الإخوة! تأملوا هذه الآية كيف تبين الحال يوم القيامة، حيث تبقى محبة المؤمنين فيما بينهم، وتنقلب المحبة في غير الله إلى عداوة في تلك المواقف العظيمة، والله لو تأملناها حق التأمل لراجعنا أنفسنا في هذا الباب، لراجع كل واحد منا علاقاته بالناس وحبه وبغضه؛ لينقل ذلك إلى الميزان الشرعي، حتى تكون محبته ومخاللته وصداقته وأُخوته في الله تبارك وتعالى، حتى تبقى تلك الخلة والمحبة يوم يقف الجميع بين يدي الله تعالى؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث عن يوم القيامة، وذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر منهم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه). وتأملوا كيف يكون حال رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه يوم القيامة؟! يجتمعان هنالك في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله، في ذلك اليوم العصيب الذي تدنو فيه الشمس من العباد ويشتد الكرب والهول، هناك يجتمع المتحابون في الله تعالى ليظلهم الله في ظله الظليل. وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم ، تأملوا هذا الحديث -أيها الإخوة!- حين ينادي الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بهذه الصفة: (أين المتحابون بجلالي؟)، أين المتحابون في الله الذين جمعت بينهم أخوة الإيمان وطاعة الرحمن؟ فهؤلاء يوم القيامة تكون لهم هذه المنزلة العظيمة. ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وقال عنه: حديث حسن صحيح: (قال الله تعالى: المتحابون بجلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)، فكفى بهذه المحبة في الله عظمة أن تكون محبة باقية إلى يوم القيامة، وأن يكون للمتحابين في الله تلك المنابر الكبرى يوم القيامة. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني وإياكم من المتحابين في الله. ثانياً: بهذه المحبة توجد حلاوة الإيمان، وحلاوة الإيمان مسألة قلبية إيمانية، يجد لذتها المتحابون في الله، لا لشيء آخر من دنيا ولا غيرها، ويجدون فيها من الراحة وطمأنينة النفس والقلب ما لا يجده الإنسان لا بدنيا ولا بمتعة ولا بغيرهما. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار)، إذاً: محبة المرء لله لا يحبه إلا لله يجد فيها الإنسان حلاوة الإيمان. ثالثاً: الحب في الله من مكملات الإيمان، وتكملة الإيمان وزيادته مما ينبغي أن يحرص عليه العبد المؤمن دائماً، فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان)، والحديث رواه أبو داود. واستكمال الإيمان يكون بأمور كثيرة، لكن من أعظم ما يستكمل به الإيمان: الحب في الله والبغض في الله. رابعاً: الحب في الله يرفع العبد إلى أن يكون مع من أحبه، وإن كانوا أعلى منه درجة يوم القيامة، وهذه فائدة فرح بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم كانوا يخافون من تفاوت المنازل في الجنة، بأن تكون منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من منازلهم -وهي أعلى بلا شك- فلا يكونون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلتقون به، ولذا روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحب قوماً ولما يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب)، ففرح الصحابة رضي الله عنهم بذلك فرحاً شديداً؛ لأنهم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون أبا بكر و عمر وغيرهما من الصحابة، فرح الصحابة شديداً؛ لأنهم سيكونون مع رسول الله ومع صحبه الكرام. ونحن نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب صحبه الكرام، وأن يجعلنا معهم في الجنة، كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: (المرء مع من أحب)، في هذا الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما.